الاثنين، ٢٠ أغسطس ٢٠٠٧

الإمبراطورية الأمريكية


يتصل بذلك أن الولايات المتحدة لا تعذب نفسها بلغة العواطف أو حديث الذكريات.

و مع أن قصة الإمبراطوريات علي طول التاريخ لم تعرف سخونة الغرام و دفء الحنين - إلا أن الإمبراطورية الأمريكية وصلت في إنكار العواطف و الزكريات إلي مدي غير مسبوق ، فالإمبراطوريات القديمة مثلاً تحملت مرات بإلتزامات أدبية و أخلاقية ، كان ضمنها رعاية حليف أو حماية صديق ، حتي أن جيوش " نابليون " و هي تنسحب من مصر بعد غزوتها الفاشلة في مطالع القرن التاسع عشر ، اصطحبت معها الجنرال " يعقوب " الذي ساعدها ضد قوي المقاومة الوطنية ، و اعتبرت فرنسا أنه من العار عليها أن تتخلى عنه.
لكن الإمبراطورية الأمريكية و بدون عناء ثقيل علي الضمير - تخلت عن أهم رجالها قي الشرق الأوسط و هو شاه إيران " محَمد رِضا بهلوي " ورفضت أن تمنحه حق لاجئ سياسي في أمريكا ، بل و كانت علي وشك تسليمه إلي الثورة الإيرانية في مقابل الإفراج عن الرهائن الأمريكيين الذين احتجزهم شباب الثورة الإسلامية في السفارة الأمريكية بطهران !

................................

................................

وعلي سبيل المثال فقد قامت تجربة بناء الدولة الأمريكية ( أساس الإمبراطورية الجديدة و سندها ) - فكراً و فعلاً و في جزء كبير منها علي جهد آخرين جرى توظيفهم بأسهل الوسائل و أرخص الآثمان ، ( وذلك بند آخر في منطق حساب الأرباح و الخسائر ).

- ففي مجال الفكر كان أمام الدولة الجديدة مخزون التراث الأدبي و العلمي و حصيلة الفكر السياسي و الإقتصادي العالمي بأكمله - و هو تراث دفعت فيه ثقافات آخري دم الرواد من أبنائها ، لكن الدولة الأمريكية حصلت عليه من أوله لآخره دون مقابل - أو حقوق ملكية علمية أو أدبية أو فكرية. ( و مع أن التجربة الأمريكية أبدعت في مجال التطبيق و تفوقت في مجال الإدارة - إلا أن المنابع و المناهل و المراجع الأساسية جاءت إلي أمريكا عابرة للمحيط - دون عناء و مجاناً ).

- ثم وقع في مجال العمل ما وقع قبله في مجال الفكر ، ذلك أن الموارد الهائلة التي كشفت غناها أمام أفواج المهاجرين أكدت لهم من أول نظرة أن استثمارها يفوق طاقة عملهم. و كانت " العبودية هي الحل ". و راحت قوافل السفن تحمل قطعان العبيد من أفريقيا أكداساً ( كالبضائع ) ، يموت نصفهم علي مدة الرحلة بسبب مشاق المحيط و قساوته ، ثم يصل نصفهم الآخر ( بمعجزة ) إلي شطآن العالم الجديد مقيدين بالسلاسل معروضين في المزاد ( و وثائق الدولة الأمريكية تكشف أنه من القرن السادس عشر إلي القرن الثامن عشر وصل إلي الأرض الأمريكية ما بين 25~30 مليون أفريقي أطبقت عليهم قيود العبودية ). و كان هؤلاء العبيد بشهادة كل مؤرخ لنمو الإقتصاد الأمريكي - هم الذين أنشأوا القاعدة الزراعية الأولي التي نهضت عليها الدولة الأمريكية - و هم الذين وقفوا أمام أفران الحديد و الصلب و نارها اللافحة عندما توهجت الثورة الصناعية.

و أكثر من ذلك فإن المجندين السود كانوا هم الذين تحملوا بأصعب المهام في الحروب الأمريكية كلها و آخرها و أشهرها حرب فيتنام. و رغم أن نسبة السكان من الزنوج في الولايات المتحدة تقارب 12% من مجموع السكان - فإن نسبة قتلاهم في الحرب العالمية الأولي بلغت 38% و في حرب فيتنام بلغت النسبة 50% ، حتي أن " مارتن لوثر كنج " الزعيم الزنجي المشهور ( الحاصل على جائزة نوبل للسلام ) لم يكن يكف في مواعظه عن الاستشهاد بالتعبير الذي يقول " إن حرب فيتنام كانت مذبحة كُلف فيها الرجل الأسود بقتل الرجل الأصفر ( يقصد أهل الشرق الأقصى ) ".

و انتهت العبودية دون تصفية آثارها ، و إنما بقى بعدها تمييز عنصري مازال حتي اليوم جُرحاً غائراً في الوجدان الأمريكي - مسكوتاً عنه - لكنه حتي هذه اللحظة دون علاج ، لأن الصمت عن الوجع لا يشفيه.

...........................

...........................

[ و قد فقد السيناتور " ترنت لوت " عضو مجلس الشيوخ عن ولاية مسيسيبي و زعيم الأغلبية الجمهورية مركزه الرسمي لأنه تحسر علي ظرف ضاعت فرصته لتشديد القيود علي الزنوج ، و كانت خسارة السيناتور " لوت " لمركزه لا ترجع لإساءته إلي مشاعر الأمريكيين السود ، و إنما لأنه ذكر - أو أعاد التذكير - بقضية التمييز العنصري ، و هي قضية لا تزال متفجرة - لكن أحداً لا يريد عود ثقاب بالقرب من مستودع البارود].

و كان إنعكاس ذلك على سياسة الإمبراطورية الأمريكية شديد الوطأة ، فالإمبراطوريات القديمة حاولت أن تغطى استغلالها للمستعمرات بدعاوي أخلاقية من نوع " مسئولية الرجل الأبيض عن نشر الحضارة " ، و من نوع " إدخال النور إلي قارات الظلام " ، و من نوع " حرية البحار و حرية التجارة " ، و مع أن هذه الدعاوي كانت - في معظم الأحيان - شحنات من نفاق ، فإن الدلالة الأهم لهم أن " الأقوياء " استشعروا حاجتهم إلي سواتر أخلاقية - و لعل هذه السواتر الأخلاقية أحياناً اعتذار تقدمه القوة بين يديها كي تبرر لنفسها و تلتمس الصفح - لكنه في النموذج الأمريكي فإن هذه السواتر الأخلاقية بدت زوائد لا تحتاجها المصالح ، و بالتالي فإنه لا حاجة إليها ، اتكالاً علي الصمت أن يؤدي واجبه حتي يجئ دور النسيان ليسدل أستاره إلي الأبد.

من كتاب : الإمبراطورية الأمريكية و الإغارة علي العراق - محَمد حَسنين هيكل ، دار الشروق ، الطبعة السادسة 2006 ، صفحة 36

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

اجمل مظلات وسواتر في المملكة تفضل بزيارة موقعنا http://www.sbi3i.com/ وعلى ارقام0504796842 - 0557050439