علي أن ما هو أغرب جاء مع المعركة الثانية للقوات الأمريكية علي مسار الحرب ، و هي معركة النزول في صقلية. و كان محتملاً في هذه المعركة أن تكون إنزالاً حقيقياً ( بكل مخاطر عمليات الإنزال من البحر إلي الشاطئ أمام تحصينات قوية و نيران معادية ) - لكن البيت الأبيض تحرك لكل الوسائل ، و شاغل الرئيس فيه ( و هو " فرانكلين روزفلت " وقتها ) : كيف يمكن تقليل خسائر الإنزال في عملية صقلية بأقل كلفة من الدم ، لأن هذه الجزيرة مطلوب منها أن تتسع لنصف مليون جندي أمريكي ثم تتحول إلي منصة قفز لهم علي شبة الجزيرة الإيطالية المتدلية في البحر الأدرياتيكي.و كان البيت الأبيض بنفسه هو الذي تولي رسم و رتب تنفيذ خطة تقليل خسائر الإنزال في صقلية - و كان الرسم و الترتيب علي شكل مقايضة مباشرة و عملية ( دون روادع من أي نوع : ديني - أخلاقي - قانوني أو غيرها ! ) ، شملت ترتيبات لا تتخفى و لا تتستر - وسياقها علي النحو التالي :
- أن " عصابات المافيا " في نيويورك ( ذلك الوقت ) علي اختلاف أسرها هم في الأصل مهاجرون من صقلية.
- ولعصابات المافيا في هذه الجزيرة اقارب و أنصار و استثمارات كبيرة توفر أرزاقا و تعقد ولاءات ، بل و تشتري السلطة المحلية في الجزيرة.
- ومعني ذلك أن " عصابات المافيا " قادرة علي تسهيل عمليات إنزال القوات الأمريكية القادمة من المغرب إلي صقلية لكي تبدأ غزو إيطاليا ( مقدمة لكسر قبضة ألمانيا و كسر رأسها أيضاً ! ).
- و بناء عليه فقد كلف الرئيس " روزفلت " أحد مساعديه ( " هاري هوبكنز " ) أن يعرض علي زعماء المافيا نيويورك صفقة مقايضة - قبلت بها عصابات المافيا ، و اتفقت عليها بأعصاب باردة - و شروطها :
1- تحصل عصابات المافيا مقدماً علي 25 مليون دولار " لوضع قطع الحلوى في أشداق بعض المسئولين في صقلية ". ( كذلك سجلت مذكرة الرئيس عن الإتصالات ) !
2- تكون للمافيا " حقوق حماية " بعد تحرير ايطاليا ، و هذه الحقوق يلزم أن تكون إيجابية ، بمعني أنها لا تقتصر علي مجرد التغاضي عن نشاط هذه العصابات في أمريكا وحدها ، و إنما تضمن لها فوق ذلك و زيادة عليه مشاركة فاعلة و مؤثرة في الشأن الايطالي.
3- تتشاور الجهات الأمريكية المعنية مع زعماء عائلات المافيا في ترتيب " علاقة عمل " مع أجهزة الأمن الأمريكية تكفل كذلك تغطية نشاط عصاباتها في الولايات المتحدة ذاتها ، بما في ذلك أن يكف مكتب التحقيقات الفيدرالي عن الوقيعة بين علائلاتها و تحريض بعضها علي بعضها الآخر.
و بعد هذه الصفقة - و ليس قبلها - وصلت ناقلات الجنود الأمريكية إلي شواطئ صقلية ، و نزل الجنرال " باتون " و مدرعاته من البحر إلي البر ، و كان زعماء عائلات المافيا و أبنائهم و زوجاتهم و أطفالهم و رجالهم و أعوانهم في الإدارة المحلية ( بل و حتي تلاميذ المدارس ) يلوحون بالأعلام الأمريكية ، و يهللون لوصول كل قارب من قوارب الإنزال الناقلة للجنود و الأسلحة و الذخائر.
و من المدهش أن ذلك الوضع الخاص للمافيا - بناء علي إتفاق النزول الأصلي في صقلية - ظل سارياً حتي وقت قريب. و الشاهد أن محاكمة السياسي الايطالي " جوليو أندريوتي " و الحكم عليه قبل أسابيع قليلة بالسجن 22 سنة بتهمة التغطية السياسية علي عصابات الجريمة المنظمة - جاء مظهراً من مظاهر نفاذ و استمرار ذلك الإتفاق بين حكومة الولايات المتحدة و بين عصابات المافيا سنة 1942 ، و تأكيداً لسريان مفعوله حتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأكثر من 60 سنة ( سنة 2002 ) - مع ملاحظة أن " أندريوتي " تولي رئاسة الوزارة في ايطاليا ثماني مرات ! ( و من الغريب أن " أندريوتي " حينما سمع الحكم عليه بالسجن لمدة اثنتين و عشرين سنة لم يغضب و لم يثر ، و إنما ذَكر الصحفيين بعمره ( 85 سنة ) ، و كان تعليقه بسخرية : " يظهر أن هؤلاء القضاة يتصورون أن عمري ممتد إلي الأبد! " ).
و من الأغرب في القضايا المنظورة الآن و المتصلة بنزاهة الحكم في عهد رئيس وزراء ايطاليا الحالي " برليسكوني " - أن ظل عصابات المافيا مازال - حتي هذه اللحظة يحوم حول قاعة المحاكمة - يظهر و يختفي ثم يعود إلي الظهور !
من كتاب : الإمبراطورية الأمريكية و الإغارة علي العراق - محَمد حَسنين هيكل ، دار الشروق ، الطبعة السادسة 2006 ، صفحة 28


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق