الأحد، ١٩ أغسطس ٢٠٠٧

مافيا

علي أن ما هو أغرب جاء مع المعركة الثانية للقوات الأمريكية علي مسار الحرب ، و هي معركة النزول في صقلية. و كان محتملاً في هذه المعركة أن تكون إنزالاً حقيقياً ( بكل مخاطر عمليات الإنزال من البحر إلي الشاطئ أمام تحصينات قوية و نيران معادية ) - لكن البيت الأبيض تحرك لكل الوسائل ، و شاغل الرئيس فيه ( و هو " فرانكلين روزفلت " وقتها ) : كيف يمكن تقليل خسائر الإنزال في عملية صقلية بأقل كلفة من الدم ، لأن هذه الجزيرة مطلوب منها أن تتسع لنصف مليون جندي أمريكي ثم تتحول إلي منصة قفز لهم علي شبة الجزيرة الإيطالية المتدلية في البحر الأدرياتيكي.

و كان البيت الأبيض بنفسه هو الذي تولي رسم و رتب تنفيذ خطة تقليل خسائر الإنزال في صقلية - و كان الرسم و الترتيب علي شكل مقايضة مباشرة و عملية ( دون روادع من أي نوع : ديني - أخلاقي - قانوني أو غيرها ! ) ، شملت ترتيبات لا تتخفى و لا تتستر - وسياقها علي النحو التالي :

- أن " عصابات المافيا " في نيويورك ( ذلك الوقت ) علي اختلاف أسرها هم في الأصل مهاجرون من صقلية.

- ولعصابات المافيا في هذه الجزيرة اقارب و أنصار و استثمارات كبيرة توفر أرزاقا و تعقد ولاءات ، بل و تشتري السلطة المحلية في الجزيرة.

- ومعني ذلك أن " عصابات المافيا " قادرة علي تسهيل عمليات إنزال القوات الأمريكية القادمة من المغرب إلي صقلية لكي تبدأ غزو إيطاليا ( مقدمة لكسر قبضة ألمانيا و كسر رأسها أيضاً ! ).

- و بناء عليه فقد كلف الرئيس " روزفلت " أحد مساعديه ( " هاري هوبكنز " ) أن يعرض علي زعماء المافيا نيويورك صفقة مقايضة - قبلت بها عصابات المافيا ، و اتفقت عليها بأعصاب باردة - و شروطها :

1- تحصل عصابات المافيا مقدماً علي 25 مليون دولار " لوضع قطع الحلوى في أشداق بعض المسئولين في صقلية ". ( كذلك سجلت مذكرة الرئيس عن الإتصالات ) !

2- تكون للمافيا " حقوق حماية " بعد تحرير ايطاليا ، و هذه الحقوق يلزم أن تكون إيجابية ، بمعني أنها لا تقتصر علي مجرد التغاضي عن نشاط هذه العصابات في أمريكا وحدها ، و إنما تضمن لها فوق ذلك و زيادة عليه مشاركة فاعلة و مؤثرة في الشأن الايطالي.

3- تتشاور الجهات الأمريكية المعنية مع زعماء عائلات المافيا في ترتيب " علاقة عمل " مع أجهزة الأمن الأمريكية تكفل كذلك تغطية نشاط عصاباتها في الولايات المتحدة ذاتها ، بما في ذلك أن يكف مكتب التحقيقات الفيدرالي عن الوقيعة بين علائلاتها و تحريض بعضها علي بعضها الآخر.

و بعد هذه الصفقة - و ليس قبلها - وصلت ناقلات الجنود الأمريكية إلي شواطئ صقلية ، و نزل الجنرال " باتون " و مدرعاته من البحر إلي البر ، و كان زعماء عائلات المافيا و أبنائهم و زوجاتهم و أطفالهم و رجالهم و أعوانهم في الإدارة المحلية ( بل و حتي تلاميذ المدارس ) يلوحون بالأعلام الأمريكية ، و يهللون لوصول كل قارب من قوارب الإنزال الناقلة للجنود و الأسلحة و الذخائر.

و من المدهش أن ذلك الوضع الخاص للمافيا - بناء علي إتفاق النزول الأصلي في صقلية - ظل سارياً حتي وقت قريب. و الشاهد أن محاكمة السياسي الايطالي " جوليو أندريوتي " و الحكم عليه قبل أسابيع قليلة بالسجن 22 سنة بتهمة التغطية السياسية علي عصابات الجريمة المنظمة - جاء مظهراً من مظاهر نفاذ و استمرار ذلك الإتفاق بين حكومة الولايات المتحدة و بين عصابات المافيا سنة 1942 ، و تأكيداً لسريان مفعوله حتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأكثر من 60 سنة ( سنة 2002 ) - مع ملاحظة أن " أندريوتي " تولي رئاسة الوزارة في ايطاليا ثماني مرات ! ( و من الغريب أن " أندريوتي " حينما سمع الحكم عليه بالسجن لمدة اثنتين و عشرين سنة لم يغضب و لم يثر ، و إنما ذَكر الصحفيين بعمره ( 85 سنة ) ، و كان تعليقه بسخرية : " يظهر أن هؤلاء القضاة يتصورون أن عمري ممتد إلي الأبد! " ).

و من الأغرب في القضايا المنظورة الآن و المتصلة بنزاهة الحكم في عهد رئيس وزراء ايطاليا الحالي " برليسكوني " - أن ظل عصابات المافيا مازال - حتي هذه اللحظة يحوم حول قاعة المحاكمة - يظهر و يختفي ثم يعود إلي الظهور !

من كتاب : الإمبراطورية الأمريكية و الإغارة علي العراق - محَمد حَسنين هيكل ، دار الشروق ، الطبعة السادسة 2006 ، صفحة 28

ليست هناك تعليقات: