السبت، ١١ أغسطس ٢٠٠٧

مصراييم


يبدو من مجمل الوثائق أن " دافيد بن جوريون " مؤسس دولة اسرائيل و أول رئيس للوزارة فيها بعد الإعلان عن قيامها - كان مسكوناً طول الوقت ببلد اسمه " مصر " ( " مصراييم מצרים" كما كان ينطق و يكتب بالعبرية ) - و شعوره نحو هذا البلد لا يتغير ولا يتبدل و إن تأرجح بين القلق الشديد و الكراهية العميقة ، و هو يستذكر و يستعيد في إشارته إليه ما وَرَدَ في التوراة المتداولة في اسرائيل من نعوت و أوصاف تمس مصر و شعبها ، و هي نعوت و أوصاف متمادية في معظم الحالات إلي درجة الشتم المقذع و السَب !

و في تجربته هو - بعيداً عن " المأثورات التوراتية - فإن إشاراته إلي مصر تَرِد من أول لحظة ضمن تعبيرات من نوع " باشوية مصر " - أو " دولة الباشوات المصريين " ( و لعله أثر باق من فترة دراسته و إقامته في إستنبول ) - و لكن التَحَيُز يَبين حين يذهب إلي تعبيرات من نوع " الباشوات و خَدمهم من الفلاحين " أو " الأمراء الألبان و الشركس و عبيدهم من المصريين " ، و " شعب مصر هذا المزيج من الذل والإدعاء " !

و لم تكن مصر داخلة في حسابات " بن جوريون " اثناء تفكيره و تخطيطه لإقامة الدولة اليهودية في فلسطين ، فقد كان يراها مُلتَهِية بأمورها و مشغولة بعلاقاتها مع بريطانيا ، كما كان يري في أجزابها السياسية مجرد هياكل طبقية تحمي مصالح كبار مُلاك الأرض الزراعية ، و يري أكبر رجالها لعباً في يد مُتَمَولين أجانب ينهبون البلد و سوف يواصلون نهبه !

و حتي حين وضعت مصر توقيعها علي ميثاق جامعة الدول العربية ( سنة 1944 ) فقد كان رأي " بن جوريون " أن الجامعة العربية من أولها إلي آخرها " لعبة إنجليزية " - لكنه حين دعا الملك " فاروق " إلي أول مؤتمر عربي في " إنشاص " بدأ " بن جوريون " يراجع حساباته ، فهذا المؤتمر العربي الأول علي مستوي الملوك توافق مع مجئ مفتي القدس الحاج " أمين الحسيني " لاجئاً إلي مصر و مُحتمياً بالملكِ " فاروق ". ثم كان - ايضاً - أن تَوَافَقَ ظهور مفتي القدس و ضيوف " فاروق " من الملوك العرب في نفس الوقت و في نفس القصر - لكن " بن جوريون " أراح نفسه بأن سَجلَ باستخفاف أن ملكِ مصر " يلهو بأوهام أكبر من قدرته " سوف يعرف يوماً - و عما قريب - " أن كل هؤلاء الملوك و الرؤساء الذين جمعهم في قصره لا يُمَثلون أكثر من حِلف كراهية. يحقد أعضاؤه علي بعضهم قبل حقدهم علي أي طرَف خارجي ".

لكن " بن جوريون " راح يعتبر " لهو " الملكِ " فاروق " خطراً محتملاً عندما تَبَين له أن مصر سوف تشارك - رغم ما نقله إليه أصدقاء له من الأجانب و العرب ، و من اليهود المصريين ، عن معارضة قوية من مصر تُعارض اشتراكها في حرب محتملة في فلسطين إذا قامت فيها دولة يهودية.

كان " بن جوريون " مُطلعاً علي رسائل كتبها الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية في مصر " حاييم ناحوم " أفندي. و لم يكن الحاخام الأكبر في مصر يكتب لـ " بن جوريون " لكنه كان يكتب لصديقه الدكتور " ماجنس " رئيس الجامعة العبرية في القدس. لكن الحاخام كان يُقَدِر ( و تقديره صحيح ) أن " بن جوريون " سوف يطلع بوسيلة ما علي ما يكتبه.

و كان " حاييم ناحوم " أفندي علي صلة بالملكِ " فاروق " و بكل رجال القصر الملكي ، و بعدد من الساسة المصريين من كل الأحزاب و الإتجاهات ، و كان مُقَرباً من أغلبهم خصوصاً و قد كان معارضاً للصهيونية و مشروعها ، لكن الرجل في النهاية كان مُنحازاً لأهله ، فإذا كانت هناك دولة يهودية علي وشك أن تقوم في فلسطين ، فليس أمام الحاخام مفر من تأييدها حتي لو جاءت خطواته بطيئة مُتثاقِلة ، علي عكس وكيله في مقر " الحاخامية " الذي كان داعية مُندَفِعاً إلي تأييد مشروع الدولة ، و يَعتَبِر مناصرة الحركة الصهيونية مُرادِفة للصلوت في المعابد و موازية لها في ممارسة العقيدة. و من المفارقات أن نائب الحاخام الأكبر في مصر كان اسمه " أوفاديا يوسف ".

.............................

.............................

[ و هو الآن الراعي الروحي و السياسي لحزب " شاس " الذي يملك سبعة عشر مِقعَداً في الكنيست الحالي ، و كان يشارك في ائتلاف حكومة " باراك " حتي خرج احتجاجاً علي مجرد طرح موضوع القدس للمناقشة في محادثات " كامب دافيد " الثانية في اجتماع " كلينتون " و " باراك " و " عرفات " خلال شهر يوليو الأخير سنة 2000 ، ثم كان هو القائل في مؤتمؤ صحفي منذ أسابيع أن العرب كلهم " جراد " و " بهائم " و " وحوش " لا يصح لاسرائيل أن تقترب منهم أو تتصل بهم أو تجتمع بأيِ منهم في مكان واحد ! ].

............................

............................

من كتاب : عام من الأزمات 2000-2001 - محمد حسنين هيكل ، المصرية للنشر العربي و الدولي ، الطبعة الخامسة ، صفحة
249

ليست هناك تعليقات: