الجمعة، ١٩ أكتوبر ٢٠٠٧

أمثال عربية


و أمثالُ العرب كثيرة إلى الغاية ، و من أمثال العرب أقْتَبَسَتْ إسبانية و بقيةُ أوربة عدداً من الأمثال غيرَ قليل ، و من يُدَقِّق في حكمة سانْكُو بانْساَ يَرَ قِسْمَها الكبيرَ ، الذي لا يَنْضِب مَعِينُه من أصل إسلاميّ.
و إنني ، تنويراً للقارئ ، أنقلُ بَعضها من كتاب مسيو بياس :

" العيشُ تحت جَنَاح الذُّبابَة خير من النوم في الجَبَّانَة "*.

" اسْتَفِدْ من شَبابِكَ فالعمرُ قصير "*.

" انْسَ هُمُومَك في ليلتك ما دمتَ جاهلاً ما في غَدِك "*.

" عاشِرْ حَدَّاداً تُضَرَّخ بالسِّناج (1) ، وعاشِرْ عَطَّاراً تَنَل شَذَا الأزهار "*.

" خشبةٌ تُلْهِب المَحَبَّة "*.

" مَنْ يتزوج امراةً من أجْلِ جمالها يُخْدَع ، و مَنْ يَتَزَوَّجها من أجْلِ مالها يَطْمَعْ ، و منْ يَخْتَرْها من أجْلِ رشادها يُمْتَع "*.

" إذا ما أحبكم النساء فَتَحْنَ لكم الأسدادَ ، و إذا ما كَرِهْنَكم أقَمن أمامكم سوراً من خيط العنكبوتِ كأنه من صُنْع حَدَّاد "*.

" راحةُ بال مع فَقْر خيرٌ من هَمّ مع يُسْر "*.

" لا تَدْخُل الذُّبابة فماً يستطيع السكوت "*.

" التدبيرُ نصفُ المعيشة ، و قد يكون به كلُّ المعيشة "*.

" لا تَلِدُ الفَأْرَةُ إلا فأرة "*.

" الشجرةُ التي تُخْرِج الوردَ تُخْرِج الشّوك "*.

" شاوِر من يُبْكِيكَ لا من يُضْحِكك "*.

" في الصّلاح سِرُّ النجاح "*.

" ثلاثةٌ خيرٌ من ثلاثين : الجمالُ و التقوى و كتمانُ الهَوَى "*.

" مَنْهُومان (2) لا يَشْبَعان : طالبُ علم و طالب مال "*.

---------------------------------------
(1) السناج : أثر دخان السراج في الحائط.
(2) المنهوم : ذو النهم ، من نهم في الأكل : شره و حرص و أفرط فيه.

من كتاب :
حضارة العرب - غوستاف لوبون ، ترجمة عادل زعيتر - مهرجان القراءة للجميع ، مكتبة الأسرة 2000 ، صفحة 451

الجمعة، ١٢ أكتوبر ٢٠٠٧

عيد سعيد


كل عيد و إنتم طيبين

السبت، ٢٢ سبتمبر ٢٠٠٧

حرب العاشر من رمضان


كل ما رآه أمام عينيه ( الرئيس السادات ) أثناء وجوده في مركز القيادة رقم " 10 " و بعد خروجه منه - تجربة أسطورية - و كان يمكن رد ما بدا أسطورياً إلى أسباب عقلانية و علمية :

*** أولها - أنه كان هناك وطن و أمة وقعا معاً تحت ضغوط هائلة وصلت إلى تفجير النواة الداخلية الصلبة لمعدن الوطن و الأمة ، و بالتالي فإن طاقة يصعب تصورها أفلتت من عقالها و اندفعت شحناتها - كما يحدث في أي تفجير نووي - تهاجم ذرات آخرى و تكسرها و تطلق شحناتها ، ثم تصل قوة الفعل المضاعف ، و ردود الفعل المتصلة - إلى خلق قوة جبارة لم يكن أحد يتخيل وجودها في نواة ذرة.

*** و ثانيها - أن التجارب المريرة السابقة - و على قمتها تجربة سنة 1967 - علمت كثيرين و بالذات في القوات المسلحة المصرية أن العِلم ، و التخطيط على أساسه ، هما وسيلة العصر لتحقيق أي هدف. و هكذا فإن عملية إعادة البناء التي بدأت مباشرة غداة نكسة 1967 - استطاعت أن تخلق حقائق جديدة من مقدرة الفكر و التحضير و الفعل ، و بالتالي امتلكت القوات المسلحة كفاءة تمكنت بها من إحداث نقلة نوعية في أساليب أدائها بالسلاح أمام عدوها.

*** و ثالثها - أن الكم الإنساني ( جيش المليون ) - استطاع أن يوفر لنفسه حجماً من الكيف ( كان في جيش المليون قرابة مائة ألف من حملة الشهادات المتوسطة و العليا ) له وزن أضيف إلى إرادة و مقدرة الفعل ، و كانت نتيجة تلاحم العنصرين معاً : عنصر الكم ، و عنصر الكيف - تحقيق ما يمكن وصفه بأنه معجزة.
و لقد أثارت هذه المعجزة على سبيل المثال اهتمام و فضول الكثيرين ، بينهم لجنة القوات المسلحة في الكونجرس الأمريكي ، و قد قصدت مصر و العمليات لم تتوقف بعد رغم نصائح لها من واشنطن بالانتظار - و كانت لهفة أعضائها أنهم يريدون التقصي عن أسباب مالم يتوقعه أحد!
و حين جاءوا و رأوا و عادوا ليكتبوا تقريرهم كانت آراؤهم :

أ - أن اقتحام خط " بارليف " سنة 1973 عمل عسكري لا يقل في أهميته عن سقوط خط " ماجينو " الفرنسي سنة 1940 .
ب - أن هناك نقلة بشرية كبيرة في نوعية المقاتلين العرب تختلف بها هذه الحرب عن أي حرب آخرى خاضوها من قبل.
جـ - أن التخطيط المصري للمعارك كان على كفاءة عالية ، و قد تمكن من تجاوز أسباب التفوق الإسرائيلي التقليدية. و كانت لإسرائيل ثلاثة عناصر من التفوق :

* تفوق في الطيران: و قد ألغته مصر باستعمال الصواريخ الصغيرة المضادة للطائرات من طراز سام ( للإرتفاعات العالية ) - و من طراز ستريللا ( للإرتفاعات المنخفضة ).
* تفوق في المدرعات : و قد ألغته مصر بالتوسع في الصواريخ أيضاً من طراز مولوتكا.
* تفوق في نظام التعبئة العامة : و قد ألغته مصر بعنصر المفاجأة من ناحية ، و بالتخطيط للحرب على جبهتين في وقت واحد : الجبهة المصرية ، و الجبهة السورية - من ناحية آخرى.

د - أن مصر لم تكن تملك بصفة عامة أسلحة جديدة متقدمة تم استعمالها مفاجأة ، لكنها في هذه النقطة استطاعت أن تجد وسيلة مبتكرة ، و تلك أنها استعاضت عن تقدم السلاح ، بسياسة التوسع في نشره. و قد ذكر تقرير اللجنة أن الجبهة المصرية شهدت انتشاراً للأسلحة وصفته اللجنة بأنه astounding ( أي مذهل ) - أي أن الكميات التي استعملت منه كانت غير مسبوقة ، فأمام هجمات الطائرات كانت هناك آلاف مؤلفة من صواريخ ستريللا ، و أمام زحف المدرعات كانت هناك آلاف مؤلفة من صواريخ مولونكا.
وقد لاحظت لجنة الكونجرس أن التوسع المذهل في نشر الصواريخ على الجبهة المصرية لم يكن مكلفاً فوق الطاقة ، و ضربت اللجنة لذلك مثلاً خلاصته أن الصاروخ السوفيتي المضاد للدبابات كان ثمنه 1000 دولار ، في حين أن الصاروخ الأمريكي الذي يؤدي نفس مهمته كان ثمنه 100000 دولار.

هـ - ومع ذلك فقد كان لدى القوات المصرية نوع من الكيف لاشك فيه ، و من نماذجه ما اشارت إله لجنة الكونجرس من أن الصاروخ من طراز " سام 6 " لم يقدم لفيتنام ، و لكنه قدم لمصر. و أن الدبابات من طراز " ت 62 " لم تكن دخلت إلى الخدمة في قوات حلف وارسو - و مع ذلك كانت عاملة مع السلاح المصري سنة 1973 .

*** و رابعها - أن اسرائيل - لأول مرة في حياتها - فوجئت بعمل عربي أخذ في يده زمام المبادأة ، وكان أكبر عون له هو الغرور الاسرائيلي الذي تزايد بعد سنة 1967 ، و وصل إلى درجة قاتلة حين أصبح التفكير و التخطيط الاسرائيلي قائمين على أسس جامدة رغم الشواهد - فقد ظلوا إلى آخر لحظة متجمدين عند قناعة " أن العرب لا يملكون خياراً عسكرياً قط " .

*** و خامسها - أن القوات المصرية كانت لأول مرة في عملية تستهدف تحرير أرضها ، و قد طالت معرفتها و ألفتها مع الخطة خدمة و تدريباً ومناورة على عملية التحرير التي أخذت هذا الاسم الرمزي أثناء المناورات فعلاً ، فأصبح هناك مشروع " تحرير 1 " و " تحرير 2 " و " تحرير 3 " و هكذا ..

و حين جاءت اللحظة لعملية التحرير الفعلية فإن القوات لم تتقدم فقط لتحرير الأرض - و إنما تقدمت إلى عملية عاشتها و تآلفت معها طوال تجارب طويلة ، و هكذا فإنه حين جاءت تجربة الحقيقة ، فإن الشباب و الرجال قاموا بها و كأنهم يقومون بعملية تدريب آخرى ( على حد تعبير الفريق " أحمد اسماعيل " ).

*** و سادسها - أن التفجير الذري الذي جرى في أعماق الشعب المصري و أطلق شحناته الهائلة ، كان له مثيله فيما حدث لشعوب عربية آخرى. و قد كان هناك ما جعل الملك " فيصل " على سبيل المثال يلوح مبكراً بإمكانية استخدام البترول. بل و قد كان هناك شئ قريب الشبة بذلك في موقف الإتحاد السوفيتي نفسه في تلك الفترة. ذلك إن كثرة الإلحاح عليه دفعته على نحو ما إلى أن يستجيب و لو بالكم ، مما أحدث فارقاً هائلاً في تركيز و كثافة النيران.

و على سبيل المثال فإن قرار مصر بالحرب سنة 1973 - كان يقضي باستعمال كل " الوسائل المتاحة لدى الجيش المصري في عمل عسكري لعبور القناة " ، و كان هذا هو نفس التعبير الذي استعمله في ربيع سنة 1971 حينما كان الفريق " محمد فوزي " وزيراً للحربية و قائداً عاماً للقوات المسلحة - لكن الفارق بين حجم السلاح في ربيع سنة 1971 و حجمه في خريف سنة 1973 - كان بنسبة الضعف تقريباً في حجم النيران.

معنى ذلك أنه كان هناك عوامل موضوعية يمكن لها أن تفسر المعجزة ، لكن الإحساس بالمعجزة نفسها - بعيداً عن اسبابها - كان هو العنصر الطاغي على المشاعر في تلك الليلة الحاسمة - ليلة 6 - 7 أكتوبر 1973 .

*** و سابعها - أن الرأي العام العالمي ضاق ذرعاً بالعناد الاسرائيلي المُصمم على عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة اعتماداً على أن العرب لن يحاربوا ، و ذلك خلق جواً مواتياً لتقبل العمل العربي حينما حان آوانه !

من كتاب : أكتوبر 73 السلاح و السياسة - محمد حسنين هيكل - مركز الأهرام للترجمة و النشر ، الطبعة الأولى 1993 ، صفحة 353

الجمعة، ٢١ سبتمبر ٢٠٠٧

المرأة البربرية


و يقتصر البربريُّ على زوجة واحدة ، و لا تتمتع المرأة البربرية بأكثرَ مما تتمتع به الأوروبيات من الحقوق ، و إن كانت في وِصايةٍ أقلَّ مما هُنَّ فيه.

و المرأةُ البربرية على جانبِ كبير من الحَمِيَّة ، و هي تحارب بجانب زوجها أحياناً ، و خَلدَ أُومِيرُس ذكرَها حين تَغَنى بخَبر تلك المَلِكة و النسوةِ المُتَرَجِّلات اللائي فَتَحْنَ بلاد لوبية و بعضَ آسيا الصغرى.

و من النساء البربريات من جَلَسْنَ على عرش المُلْك ، و يدلَ هذا الأمر ، الذي يَنْفِر منه العرب كثيراً ، على تباينهما في النظر إلى بعض الشئون.

و لَقِي العرب الأَمَرِّيْن في دور فتوحهم ، و ذلك من مقاومة المَلِكة البربرية الكاهنة التي أَلَّفَت بين كثير من قبائل البربر و تَسَلَّمَت القيادة و قاتلت العربَ و كُتِب لها النصر في المعركة الأولى و هَزَمَت العرب و استولت على جميع شمال إفريقية ، و لَمَّا عاود العرب الكَرَّةَ بجيش عَرَمْرَم عزمت الكاهنة على تخريب البلاد لمنعهم من فتحها ثانيةً ، فهَدَمَت جميع القُرَى التي كانت بين طرابلس الغرب و طنجة ، و كاد مصير شعب هذه السيدة ، التي ألقت الرُّعْب في قلوب العرب و الروم ، يكون غيرَ ما حدث لو لم تُقْتَل في إحدى المعارك.

من كتاب : حضارة العرب - غوستاف لوبون ، ترجمة عادل زعيتر - مهرجان القراءة للجميع ، مكتبة الأسرة 2000 ، صفحة 248

الاثنين، ١٧ سبتمبر ٢٠٠٧

قلعة شاه جهان


قصر المغول في دلهي ، أو قلعة شاهجهان*. - تمَّ بناء هذا القصر ، الذي أنشأه شاهجهان ، في سنة ( 1058 هـ - 1648 م ) و هذا القصرُ هو أجمل القصور الإسلامية التي أقيمت في بلاد الهند و فارس ، و ما في رِداهه من الفُسَيْفِساء يَجعْلُها قِطَعاً من الحُلِيِّ.

و لم يَنَل هذا القصر الشهير ( الذي هو من أعجب ما شاده البشر ، و الذي ضَنَّ به البرابرة الذين دَوَّخوا دلهي غيرَ مرة و نهبوها فلم يُخَرِّبوه ) من الإِنكليز ما يستحقُّ من العناية ، فقد هدموا جميعَ أجزائه التي رَأَوْا أنهم لا ينتفعون بها و أقاموا في مكانها و من أنقاضها ثُكَناً ، و لم يحترموا سوى الرِّدَاه التي رأوْا فيها بعضَ النفع لهم ، و ذلك مع علمنا أن الإِنكليز ، الذي حَسَبُوا مُقَدَّماً نفقةَ تنظيف تلك الرِّداه من فُسَيفِسائها و زخارفها الجميلة عند تحويلها إلى اسطبلات و مراقدَ للجنود ، لم يَرَوْا للخلاص من تلك النفقة ما هو أسهل من تكليسها ، فسَخِط العالَم على هذا العمل الهمجيِّ الذي تَحْمَرُّ منه وجوه وحوش البرابرة خجلاً فاضْطُرَّ الإنكليز إلى كَشْط ما جَنَتْ أيديهم من عمل حقير ، و ما أبقاه الإنكليز من ذلك القصر يكفي ، مع ذلك ، لبيان ما كانت عليه حالُه قبل أن تُصِيبَه يدُهم الهَدَّامة و يمكن القارئ أن يتمثله بسهولةٍ عند نظره إلى الصورة التي نشرناها في هذا الكتاب ( حضارة العرب ) عن إحدى رِداهه.

قال مسيو روسله : " إن أبَّهة داخل هذا لقصر مما لم تسمعه أذن ، فقد زُيِّنَتْ أساطينه و حناياه و أُطُرُقُبتَّه بالنقوش العربية العجيبة التي رُسَمِت بالحجارة الكريمة المرصعة في الرُّخام ، و تَهَب الشمْس وقتما تُلْقي أشعتها على فُسيْفِساء ذلك القصر من خلال حناياه ، الحياةَ لطاقاتِ زهوره المصنوعة من اللازَوَرد و العقيق و اليَصْب و ما لا يُحْصَى من أنواع الحجارة الثمينة ".
-----------------------------------
* شاهجهان كلمة مكونة من شاه + جهان ؛ شاه يعني ملك و جهان تعني العالم أو الدنيا. و لذلك فإن معنى الكلمة هو ملك الدنيا أو ملك العالم.

من كتاب : حضارة العرب - غوستاف لوبون ، ترجمة عادل زعيتر - مهرجان القراءة للجميع ، مكتبة الأسرة 2000 ، صفحة 200

الأحد، ١٦ سبتمبر ٢٠٠٧

القاهرة


مصرُ هي البلاد الوحيدة التي ترَى فيها المباني العربيةُ القائمة منذ الدَّوْر الإسلامي الأول ، و التي يمكن الباحث أن يَدْرُس فيها تحوُّل فَنِّ العمارة العربيِّ في مختلف الأدوار.

و إذْ كان جميع تلك المباني العربية القديمة القائمة هو من المساجد على وجه التقريب ، كان أهَمُّها في القاهرة ، كان من السهل درسُها.

و ظَلَّت مدينة القاهرة ، و إن شئت فقل أقسامها البعيدة عن الأوروبيين على الأقل ، عربية تماماً ، و لنا بحالها الحاضرة ، فكرةٌ عما كانت عليه في عصر الخلفاء.

و الناظر إلى القاهرة من بعيدٍ يراها ذاتَ طابع شرقيّ يستوقف النظر ، أي يراها ذاتَ طابعٍ لا يُشَاهَدُ مثلُه في أيةِ مدينة آخرى على ما يحتمل ، فهي مؤلفةٌ من بيوت بيض ذواتِ سقوف مستوية يُشْرِف عليها مئاتٌ المآذن الهِيفِ منفصلةٌ عن النخل ارتفاعاً ، و تسحر القاهرة من ينظر إليها من أعلى القلعة ، و لا أعلم مدينةً تَسْحَر القلوب بمنظرها كالقاهرة.

و شوارعُ القاهرة ضيقةٌ مُتَلَوِّيَةٌ غير منتظمة كشوارع كلِّ مدينة شرقية ، و تكاد أطنافُ نوافذِ البيوت في أحياء مصر القديمة ، على الخصوص ، تَتَمَاسُّ ، و الحكمةُ من ضيق تلك الشوارع هي الاستكثار من الظلِّ و استبقاء الرطوبة ، و من يَقْطَع شوارعَ القاهرة و ميادينها الكبيرة التي أنشئت على النمَّط الأوربيِّ تحت وَهَج الشمس يَعْلَمْ سِرَّ تفضيل الناس ، في مثل ذلك الجوِّ ، للشوارع الضيقة المملوءة على الشوارع الواسعة التي تُلْهبها نارُ الشمس على الدوام.

و يستوقف تَزَاحُمُ الأقدام في شوارع القاهرة نظرَ السياح في كلِّ حين ، و يُغْري منظرُها النفوسَ مع زيارة دمشق ، فقد قضينا ساعاتِ كثيرة في تَأَمُّلها.

قال الدكتور إيزانبر : " يُرَى ، في الجمهور الأنْمر ( فيه الأبيض و فيه الأسود ) المتزاحم ، الفلاحُ المتواضع ، و البدويُّ المتبختر ، و القبطيُّ أو اليهوديُّ العبوس ، و اليونانيُّ النشيط اليَقِظ ، و القَوَّاس الألباني الثقيل المُتَزَيِّدُ ، و أصنافُ الزنوج الذين تَتَرَجَّح ألوانهم بين الأبنوسيِّ الخاصِّ بالسُّودانيِّ و اللَّمَعان الخاصِّ بالبربريِّ ، و يتألف منظرٌ لا يَمَلُّ منه الأجنبيُّ من القوافل الآتية من نواحي إفريقية و جزيرة العرب ، و من الجمال الوَئيدَة المَشْي المُتَّزِنَة الخُطا ، ومن الحمير السريعة الخَطْو التي يَرْكَبها صِغارُ السادة من الشرقيين أو النساء المُتَحَجِّباتُ بأزُرٍ قاتمة ، و من الباشوات الذين يَمْتَطُون بملابسهم الرسمية صَهْوَة الخيل ، و من السَّقَائين الذين يَحْمِلُون أسْقِيَةً جِلْدِيَّة لَزِجة ، ومن أنواع الحمَّالين ، و من السُّوَّاس الصَّخَّابين الذين يَضرِبون العربيَّ البليدَ بسياطهم ، و من الفَلاَّحات البائسات المُتَبَاطِات ".

أنْشِئَتْ مدينة القاهرة سنة ( 359 هـ - 970 م )، و هي تَضمُّ مدينةَ الفسْطاط القديمة التي أقامها عمرو بن العاص فقامت مقامها ، و عادت مدينةُ الفُسْطَاط لا تكون اليومَ إلا ضاحيةً لتلك المدينة تُعْرَف الآن باسم مصرَ القديمةِ ، و إن كانت مدينة عمرة بن العاص هذه لم تَحْمل سابقاً هذا الاسمَ غيرَ المطابق للأصل.

و تَمَّ إنشاء القاهرة بعد أن وُضِع حجرُها الأول بثلاث سنين ، و أنفق الفاطميون جزءاً كبيراً من دَخْلهم الواسع على تجميلها و زخرفتها ، و لم يَأْل كلُّ عاهلٍ جُهْداً في أن يَسْبِقَ سلفَه في ذلك ، ثم سار المماليك الذين حَلّوا محل الخلفاء العرب على غرَار هؤلاء في تزيين القاهرة ، و لم ينقطع أمر عُمْرَانها إلا بعد أن أصبحت ولايةٍ تركية ، فقد أهملها الترك فضلاً عن عدم زخرفتها لها ، و اليوم تَتَدَرَّج مبانيها المهمة إلى الخراب ، و صار يُخْشَى زوالها في المستقبل لعدم إصلاحها ، و قد قال لي أحدُ عِيَلة القوم في مصر : إني أصبت في زيارتي لتلك المباني ، فقد لا يبقي منها شئٌ يستحقُّ المشاهدة بعد سنين قليلة.

من كتاب : حضارة العرب - غوستاف لوبون ، ترجمة عادل زعيتر - مهرجان القراءة للجميع ، مكتبة الأسرة 2000 ، صفحة 225

الخميس، ١٣ سبتمبر ٢٠٠٧