الخميس، ١٦ أغسطس ٢٠٠٧

الصيد


هناك ظاهرة تَستَوقِف النظر ، و لا بد أن يلاحظها كل قارئ مُهتَم بالملفات الاسرائيلية و يقرأ فيها قراءة تحقيق و تدقيق.

خلاصة هذه الظاهرة أن لاسرائيل تجاه العالم العربي أكثر من سياسة ، و هذا مفهوم في جزء منه ، بمعني أن اسرائيل يمكن أن تكون لها سياسة مع دول عربية ليست لها حدود مباشرة معها - و تكون هذه السياسة مُختلفة عن سياستها مع دول ملاصقة لها - و بالتالي فإن اسرائيل مع دول مثل السعودية و غيرها من دول الخليج تستطيع أن تتخذ سياسة حِرص من بعيد عارفة حَق الفواصل الجغرافية و مُحَدداتها. و كذلك فإن اسرائيل يمكن أن تكون لها سياسة خاصة لها اعتباراتها و خلفياتها مع بلد مثل الأردن رغم ملاصقته لها في الجوار. و لكن الذي يَستَوَجِب الملاحظة و يَستَحِقها هو وجود اختلاف في السياسات المتبَعة إزاء مصر و تلك المتبَعة إزاء سوريا - بينما كلاهما مجاوِِر لاسرائيل - بالإلتصاق - و كلاهما مُعاد لها - بالمبادئ و التصرفات.

و مع أن عداء اسرائيل للبلدين - مصر و سوريا - مُحَقق و مُؤكد - إلا أن التعبير الاسرائيلي عن العَداء مُتَباين : ففي حالة سوريا بُعَبر العَداء عن نفسه بأسلوب ، بينما هو في حالة مصر يَتخذ أسلوباً غيره. و في بعض الأحيان يبدو الخلاف في السياسات الاسرائيلية إزاء مصر و سوريا مُوحِياً بأن مَطالب اسرائيل في الجنوب ، غير مطالبها في الشمال. و من ثم فإن طريقة مواجهتها للطرف العربي - الجنوبي الأفريقي في مصر - مختلفة عن مواجهتها للطرف العربي - الشمالي الآسيوي في سوريا.

و الحاصل أنه مع سوريا فإن العداء الاسرائيلي يَعتَمد أسلوباً يكاد تركيز ضغطه أن يكون علي الأعصاب ، بحيث يستثيرها و يُفقدها التوازن. و إزاء مَحدودِية الفُدرة علي رَد الفِعل فإن الضغط علي الأعصاب - كذلك التقدير - يُحَول كل التفاعلات إلي احتقان يَرتَد أثره إلي الداخل السوري قبل أن يَنفَجِر ناراً علي الحدود.

و أما مع مصر فإن العداء الاسرائيلي يَظهَر منذ اللحظة الأولي تصميماً علي القتل ، فالعداء علي الجبهة المصرية باستمرار حرب لسفك الدَم دون أي اعتبار أخلاقي أو إنساني ، و لكسرِ الإرادة و ليس لمجرد استثارة الأعصاب أو الاعتماد علي احتقان داخلي !

ثم لا يلبث القارئ المحقق المدقق أن يكتشف أن وراء اختلاف التعبيرات عن العداء في الحالة المصرية عنها في الحالة السورية أسباباً منطقية تكشف عن نفسها دون عناء كبير :

1- عداء اسرائيل لمصر يهدف إلي إبعادها و إخراجها عن الصراع العربي الاسرائيلي و يُعَزز هذه اعتقاد بأن عودة مصر إلي ما وراء حدودها في أفريقيا هدَف ممكن.

و أما في الحالة السورية فإن سوريا موجود بالجغرافيا و التاريخ داخل البؤرة المباشرة للصراع العربي الاسرائيلي - حتي تكاد فلسطين أن تكون جزءاً من سوريا ( و قد كانت فلسطين بالفعل هي سوريا الجنوبية ( الشام الجنوبي ) بفعل الحقائق الجغرافية في الإقليم ، و تلك حقائق أكدَت نفسها لزَمَن طويل في تاريخ هذا الإقليم و إذن فإن سوريا - علي عكس مصر - لا يمكن إخراجها - و إذا كان ذلك فهي باقية - مهما حدث - جزءاً من جسمه الحي ).

2- و علي هذا الأساس فإن أقصي العنف ضروري مع مصر لأن الهدف هو قطع اتصالها بالمشرق العربي - و إذن فهي الجراحة دَمَوِية و حتي بدون تطهير للجَرح أو تضميد. و أما مع سوريا فإت الجراحة ليست ضرورية ، و الجَرح ليس مَطلوباَ - و إذن فالترويض أنفَع من العُنف ، و التطبيب أنجَع من الجراحة ، إلا في الحالات القصوي و في أضيق الحدود.

3- يتصل بذلك أن اسرائيل لا تَدعي لنفسها مَطالب من أي نوع ( أسطوري ، أو تاريخي ) في مصر ، و كل ما تريده من مصر هو أن تَحِل عنها و تُرَتب حياتها و مُستقبلها بعيداً عنها في أفريقيا.

و أما سوريا فإن مَطالب اسرائيل علي أجنابها ، كما أن بعض المطالِب في أطرافها مباشرة خصوصاً مَطلب المياة.

4- و معني ذلك أن اسرائيل لا تُمانع أن تقطع كل الصلات بمصر إذا هي انعزلت ، و لكنها لا تستطيع أن تقطع صلاتها بسوريا و هي قلب الشام ، بينما فلسطين في الواقع الجغرافي و التاريخي جزء من الشام - لأنها بالضبط جنوبه.

و هكذا فإن اسرائيل جاهزة لاستعمال أقصي درجات العنف لإبعاد مصر حتي و إن خَلقَت ثارات في الدَم تَستَوجب القصاص - لكنها مع سوريا لا تريد لثأر الدَم أن يَتَعَمق - و قصاري ما تَسمَح به - من جانبها - مع سوريا عُقَد نَفسِية مُستحكَمة يمكن حلها ذات يوم إذا انسلخت الأجواء ( كذلك يُقَدرون؟! ).

5- و أخيراً فإنه مما يُزَكي هذا التباين في السياسات الاسرائيلية بين أسلوب التعامل مع مصر و أسلوب التعامل مع سوريا - وجود إدراك اسرائيلي عميق يري أن مصر بحَجمِها و مواردها هي مفتاح الحرب لأنه بغيرها لا يملك العرب إمكانية القتال - و أما مع سوريا فهي بموقعها و بدَورِها مفتاح السلام ، و بغير توقيعها علي صَكه النهائي تظل بؤرة الصراع و محيطها في حالة تَوَتُر و قلق.

و في سياق الحوادث المؤدية إلي ظروف سنة 1967 و ملابستها فإن الجنرال " أهارون ياريف " مدير المخابرات العسكرية الاسرائيلية ( " أمان " ) كان هو الأدق في تصوير الفارق بين تعبيرات السياسة الاسرائيلية في عدائها لسوريا ، و بين تعبيراتها في عدائها لمصر. و قد وَرَدَ وصف الجنرال " ياريف " في مذكرة ضمن أوراقه التي أودِعَت في مركز للدراسات الإستراتيجية أطلق عليه اسمه بعد وفاته. و يَظهَر أن الجنرال " ياريف " قَدَمَ مذكرته إلي اجتماع سياسي علي مستوي عال في أوائل سنة 1966 ، و في هذه المذكرة حاول " ياريف " أن يطرح تقديراته للموقف علي ضوء التطورات التي أعقبت مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في الرباط في 12 سبتمبر 1965. و في مقدمة ورقته ذكر " ياريف " أن اللواء " أمين حافظ " كان أعلي الأصوات المنادية بحرب اسرائيل إلي النهاية في مؤتمر " كازابلانكا " - في حين أن الرئيس " ناصر " رَد عليه بنبرة تَعَقل أوضح فيها أن سوريا ينبغي عليها أن تراعي في تصرفاتها أقصي درجات الحَذّر لأن العرب في اللحظة الراهنة عليهم أن يزيدوا من دَرَجة استعدادهم و إمكانية التنسيق بينهم ليكونوا قادرين علي الدفاع عن أنفسهم و عن مشروعاتهم داخل حدودهم.

ثم مضي الجنرال " ياريف " ليقول في الخُلاصة :

" مع أن دمشق هي نداء الحرب في هذه اللحظة و القاهرة هي صوت الحَذَر - فإن تقديرات اسرائيل لتصرفاتها لابد أن تقوم علي أساس أن الخطر الرئيسي علي اسرائيل من الجنوب و ليس من الشمال " ! و و فيما بعد ( بسنين طويلة ) شارك الجنرال " ياريف " في مؤتمر خاص رَتبَته كلية الدفاع و الأمن القومي الأمريكية الشهيرة " ليفنورث "
سنة ( 1975 ) ، و كان موضوع المؤتمر " مستقبل الصراع في الشرق الأوسط ". و أثناء إحدي مُداخلاته في مَسار المناقشة طَرَحَ الجنرال " ياريف " تقديراته مرة أخري في تَشبيه مُعَبر و حَي كأنه صورة مُلَونة ، فقد قال ما مُؤداه إن " السلام سوف يُداوي كل جراح الحروب السابقة بيننا و بين العرب. و صحيح أننا لجأنا إلي العنف مع المصريين أكثر من غيرهم ، و لكنكم تعرفون أنهم الطرف الأقوي و الأخطر ، و لقد كان أسلوبنا في الحرب مع العرب إذا أخذنا بفنون الصيد في البحر و تَنَوعها هو :

- في الشمال - مع سوريا و لبنان - كنا نصطاد بالشَبَكة - تحاول الإمساك بالسَمَكة دون أن تجرحها.

- أما في الجنوب - مع مصر - فلم يكن مأموناً أن نصطاد " الوحش " بالشَبَكَة ، و لذلك كان ضرورياً أن نستعمل الـ " هاربون " ( الرُمح أو الحَربة المُثَبت علي بندقية قاذفة الذي يُستَعمَل للصيد في الأعماق ، و هو يلحق جراحاً غائرة - و أحياناً قاتلة - بالسَمَك الكبير الذي يصيبه ). و الحقيقة أن التجاء الجنرال " ياريف " في التشبيه إلي فنون الصيد : الصيد بالشَبَكة أو الصيد بالحَربَة ( الـ " هاربون " ) - دقيق ، و هو قادر علي شرح الكثير من تصرفات اسرائيل علي الساحات السياسية و ميادين العَمل العسكري.

من كتاب : عام من الأزمات ( 2000-2001 ) محمد حسنين هيكل ، المصرية للنشر العربي و الدولي ، صفحة 335

ليست هناك تعليقات: