السبت، ٢٢ سبتمبر ٢٠٠٧

حرب العاشر من رمضان


كل ما رآه أمام عينيه ( الرئيس السادات ) أثناء وجوده في مركز القيادة رقم " 10 " و بعد خروجه منه - تجربة أسطورية - و كان يمكن رد ما بدا أسطورياً إلى أسباب عقلانية و علمية :

*** أولها - أنه كان هناك وطن و أمة وقعا معاً تحت ضغوط هائلة وصلت إلى تفجير النواة الداخلية الصلبة لمعدن الوطن و الأمة ، و بالتالي فإن طاقة يصعب تصورها أفلتت من عقالها و اندفعت شحناتها - كما يحدث في أي تفجير نووي - تهاجم ذرات آخرى و تكسرها و تطلق شحناتها ، ثم تصل قوة الفعل المضاعف ، و ردود الفعل المتصلة - إلى خلق قوة جبارة لم يكن أحد يتخيل وجودها في نواة ذرة.

*** و ثانيها - أن التجارب المريرة السابقة - و على قمتها تجربة سنة 1967 - علمت كثيرين و بالذات في القوات المسلحة المصرية أن العِلم ، و التخطيط على أساسه ، هما وسيلة العصر لتحقيق أي هدف. و هكذا فإن عملية إعادة البناء التي بدأت مباشرة غداة نكسة 1967 - استطاعت أن تخلق حقائق جديدة من مقدرة الفكر و التحضير و الفعل ، و بالتالي امتلكت القوات المسلحة كفاءة تمكنت بها من إحداث نقلة نوعية في أساليب أدائها بالسلاح أمام عدوها.

*** و ثالثها - أن الكم الإنساني ( جيش المليون ) - استطاع أن يوفر لنفسه حجماً من الكيف ( كان في جيش المليون قرابة مائة ألف من حملة الشهادات المتوسطة و العليا ) له وزن أضيف إلى إرادة و مقدرة الفعل ، و كانت نتيجة تلاحم العنصرين معاً : عنصر الكم ، و عنصر الكيف - تحقيق ما يمكن وصفه بأنه معجزة.
و لقد أثارت هذه المعجزة على سبيل المثال اهتمام و فضول الكثيرين ، بينهم لجنة القوات المسلحة في الكونجرس الأمريكي ، و قد قصدت مصر و العمليات لم تتوقف بعد رغم نصائح لها من واشنطن بالانتظار - و كانت لهفة أعضائها أنهم يريدون التقصي عن أسباب مالم يتوقعه أحد!
و حين جاءوا و رأوا و عادوا ليكتبوا تقريرهم كانت آراؤهم :

أ - أن اقتحام خط " بارليف " سنة 1973 عمل عسكري لا يقل في أهميته عن سقوط خط " ماجينو " الفرنسي سنة 1940 .
ب - أن هناك نقلة بشرية كبيرة في نوعية المقاتلين العرب تختلف بها هذه الحرب عن أي حرب آخرى خاضوها من قبل.
جـ - أن التخطيط المصري للمعارك كان على كفاءة عالية ، و قد تمكن من تجاوز أسباب التفوق الإسرائيلي التقليدية. و كانت لإسرائيل ثلاثة عناصر من التفوق :

* تفوق في الطيران: و قد ألغته مصر باستعمال الصواريخ الصغيرة المضادة للطائرات من طراز سام ( للإرتفاعات العالية ) - و من طراز ستريللا ( للإرتفاعات المنخفضة ).
* تفوق في المدرعات : و قد ألغته مصر بالتوسع في الصواريخ أيضاً من طراز مولوتكا.
* تفوق في نظام التعبئة العامة : و قد ألغته مصر بعنصر المفاجأة من ناحية ، و بالتخطيط للحرب على جبهتين في وقت واحد : الجبهة المصرية ، و الجبهة السورية - من ناحية آخرى.

د - أن مصر لم تكن تملك بصفة عامة أسلحة جديدة متقدمة تم استعمالها مفاجأة ، لكنها في هذه النقطة استطاعت أن تجد وسيلة مبتكرة ، و تلك أنها استعاضت عن تقدم السلاح ، بسياسة التوسع في نشره. و قد ذكر تقرير اللجنة أن الجبهة المصرية شهدت انتشاراً للأسلحة وصفته اللجنة بأنه astounding ( أي مذهل ) - أي أن الكميات التي استعملت منه كانت غير مسبوقة ، فأمام هجمات الطائرات كانت هناك آلاف مؤلفة من صواريخ ستريللا ، و أمام زحف المدرعات كانت هناك آلاف مؤلفة من صواريخ مولونكا.
وقد لاحظت لجنة الكونجرس أن التوسع المذهل في نشر الصواريخ على الجبهة المصرية لم يكن مكلفاً فوق الطاقة ، و ضربت اللجنة لذلك مثلاً خلاصته أن الصاروخ السوفيتي المضاد للدبابات كان ثمنه 1000 دولار ، في حين أن الصاروخ الأمريكي الذي يؤدي نفس مهمته كان ثمنه 100000 دولار.

هـ - ومع ذلك فقد كان لدى القوات المصرية نوع من الكيف لاشك فيه ، و من نماذجه ما اشارت إله لجنة الكونجرس من أن الصاروخ من طراز " سام 6 " لم يقدم لفيتنام ، و لكنه قدم لمصر. و أن الدبابات من طراز " ت 62 " لم تكن دخلت إلى الخدمة في قوات حلف وارسو - و مع ذلك كانت عاملة مع السلاح المصري سنة 1973 .

*** و رابعها - أن اسرائيل - لأول مرة في حياتها - فوجئت بعمل عربي أخذ في يده زمام المبادأة ، وكان أكبر عون له هو الغرور الاسرائيلي الذي تزايد بعد سنة 1967 ، و وصل إلى درجة قاتلة حين أصبح التفكير و التخطيط الاسرائيلي قائمين على أسس جامدة رغم الشواهد - فقد ظلوا إلى آخر لحظة متجمدين عند قناعة " أن العرب لا يملكون خياراً عسكرياً قط " .

*** و خامسها - أن القوات المصرية كانت لأول مرة في عملية تستهدف تحرير أرضها ، و قد طالت معرفتها و ألفتها مع الخطة خدمة و تدريباً ومناورة على عملية التحرير التي أخذت هذا الاسم الرمزي أثناء المناورات فعلاً ، فأصبح هناك مشروع " تحرير 1 " و " تحرير 2 " و " تحرير 3 " و هكذا ..

و حين جاءت اللحظة لعملية التحرير الفعلية فإن القوات لم تتقدم فقط لتحرير الأرض - و إنما تقدمت إلى عملية عاشتها و تآلفت معها طوال تجارب طويلة ، و هكذا فإنه حين جاءت تجربة الحقيقة ، فإن الشباب و الرجال قاموا بها و كأنهم يقومون بعملية تدريب آخرى ( على حد تعبير الفريق " أحمد اسماعيل " ).

*** و سادسها - أن التفجير الذري الذي جرى في أعماق الشعب المصري و أطلق شحناته الهائلة ، كان له مثيله فيما حدث لشعوب عربية آخرى. و قد كان هناك ما جعل الملك " فيصل " على سبيل المثال يلوح مبكراً بإمكانية استخدام البترول. بل و قد كان هناك شئ قريب الشبة بذلك في موقف الإتحاد السوفيتي نفسه في تلك الفترة. ذلك إن كثرة الإلحاح عليه دفعته على نحو ما إلى أن يستجيب و لو بالكم ، مما أحدث فارقاً هائلاً في تركيز و كثافة النيران.

و على سبيل المثال فإن قرار مصر بالحرب سنة 1973 - كان يقضي باستعمال كل " الوسائل المتاحة لدى الجيش المصري في عمل عسكري لعبور القناة " ، و كان هذا هو نفس التعبير الذي استعمله في ربيع سنة 1971 حينما كان الفريق " محمد فوزي " وزيراً للحربية و قائداً عاماً للقوات المسلحة - لكن الفارق بين حجم السلاح في ربيع سنة 1971 و حجمه في خريف سنة 1973 - كان بنسبة الضعف تقريباً في حجم النيران.

معنى ذلك أنه كان هناك عوامل موضوعية يمكن لها أن تفسر المعجزة ، لكن الإحساس بالمعجزة نفسها - بعيداً عن اسبابها - كان هو العنصر الطاغي على المشاعر في تلك الليلة الحاسمة - ليلة 6 - 7 أكتوبر 1973 .

*** و سابعها - أن الرأي العام العالمي ضاق ذرعاً بالعناد الاسرائيلي المُصمم على عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة اعتماداً على أن العرب لن يحاربوا ، و ذلك خلق جواً مواتياً لتقبل العمل العربي حينما حان آوانه !

من كتاب : أكتوبر 73 السلاح و السياسة - محمد حسنين هيكل - مركز الأهرام للترجمة و النشر ، الطبعة الأولى 1993 ، صفحة 353

هناك ٥ تعليقات:

ذو النون المصري يقول...

موضوع حرب النكسه و حرب العبور العظيم ستظل من الموضوعات الهامه جدا و التي لن يكف الكتاب عن الكتابه حولها او دراستها لانها فعلا كانت مفصل في تاريخ مصر و المنطقه
احييك بشده علي المقال
كل سنه و انت طيب
تحياتي

درش يقول...

أهلاً بيك يا ذو النون المصري.
لازم طلنا نفتخر بحرب أكتوبر 1973.
ولازم كمان نواجه المشككين بإنتصارنا فيها اللي هما للإسف مفروض إنهم أصدقاء و يمكن إخوان لينا.
و كل سنة و إنت طيب.

تائهة فى أرض الأحلام يقول...

مدونتك حلوة جدا

ومفيدة اوى

وأعتبرينى دلوقتى من قراءك واسمحى لى أن اضعك عندى فى مدونات صديقة

تحياتى لك

درش يقول...

أهلاً بيكي يا تائهة في أرض الأحلام
إنت تشرفيني دايماً.
و على فكرة مدونتك موجودة عندي على قايمة البلوجات على مدونتي التانية " بلوج رقم تلاتة ".
أنا عجبتني جداً المدونة بتاعتك لإنها كلها مواضيع مفيدة برضة.
و شكراً ليكي.

د. ياسر عمر عبد الفتاح يقول...

مقال مفيد وممتع يا درش
تسلم ايدك