الأحد، ١٦ سبتمبر ٢٠٠٧

القاهرة


مصرُ هي البلاد الوحيدة التي ترَى فيها المباني العربيةُ القائمة منذ الدَّوْر الإسلامي الأول ، و التي يمكن الباحث أن يَدْرُس فيها تحوُّل فَنِّ العمارة العربيِّ في مختلف الأدوار.

و إذْ كان جميع تلك المباني العربية القديمة القائمة هو من المساجد على وجه التقريب ، كان أهَمُّها في القاهرة ، كان من السهل درسُها.

و ظَلَّت مدينة القاهرة ، و إن شئت فقل أقسامها البعيدة عن الأوروبيين على الأقل ، عربية تماماً ، و لنا بحالها الحاضرة ، فكرةٌ عما كانت عليه في عصر الخلفاء.

و الناظر إلى القاهرة من بعيدٍ يراها ذاتَ طابع شرقيّ يستوقف النظر ، أي يراها ذاتَ طابعٍ لا يُشَاهَدُ مثلُه في أيةِ مدينة آخرى على ما يحتمل ، فهي مؤلفةٌ من بيوت بيض ذواتِ سقوف مستوية يُشْرِف عليها مئاتٌ المآذن الهِيفِ منفصلةٌ عن النخل ارتفاعاً ، و تسحر القاهرة من ينظر إليها من أعلى القلعة ، و لا أعلم مدينةً تَسْحَر القلوب بمنظرها كالقاهرة.

و شوارعُ القاهرة ضيقةٌ مُتَلَوِّيَةٌ غير منتظمة كشوارع كلِّ مدينة شرقية ، و تكاد أطنافُ نوافذِ البيوت في أحياء مصر القديمة ، على الخصوص ، تَتَمَاسُّ ، و الحكمةُ من ضيق تلك الشوارع هي الاستكثار من الظلِّ و استبقاء الرطوبة ، و من يَقْطَع شوارعَ القاهرة و ميادينها الكبيرة التي أنشئت على النمَّط الأوربيِّ تحت وَهَج الشمس يَعْلَمْ سِرَّ تفضيل الناس ، في مثل ذلك الجوِّ ، للشوارع الضيقة المملوءة على الشوارع الواسعة التي تُلْهبها نارُ الشمس على الدوام.

و يستوقف تَزَاحُمُ الأقدام في شوارع القاهرة نظرَ السياح في كلِّ حين ، و يُغْري منظرُها النفوسَ مع زيارة دمشق ، فقد قضينا ساعاتِ كثيرة في تَأَمُّلها.

قال الدكتور إيزانبر : " يُرَى ، في الجمهور الأنْمر ( فيه الأبيض و فيه الأسود ) المتزاحم ، الفلاحُ المتواضع ، و البدويُّ المتبختر ، و القبطيُّ أو اليهوديُّ العبوس ، و اليونانيُّ النشيط اليَقِظ ، و القَوَّاس الألباني الثقيل المُتَزَيِّدُ ، و أصنافُ الزنوج الذين تَتَرَجَّح ألوانهم بين الأبنوسيِّ الخاصِّ بالسُّودانيِّ و اللَّمَعان الخاصِّ بالبربريِّ ، و يتألف منظرٌ لا يَمَلُّ منه الأجنبيُّ من القوافل الآتية من نواحي إفريقية و جزيرة العرب ، و من الجمال الوَئيدَة المَشْي المُتَّزِنَة الخُطا ، ومن الحمير السريعة الخَطْو التي يَرْكَبها صِغارُ السادة من الشرقيين أو النساء المُتَحَجِّباتُ بأزُرٍ قاتمة ، و من الباشوات الذين يَمْتَطُون بملابسهم الرسمية صَهْوَة الخيل ، و من السَّقَائين الذين يَحْمِلُون أسْقِيَةً جِلْدِيَّة لَزِجة ، ومن أنواع الحمَّالين ، و من السُّوَّاس الصَّخَّابين الذين يَضرِبون العربيَّ البليدَ بسياطهم ، و من الفَلاَّحات البائسات المُتَبَاطِات ".

أنْشِئَتْ مدينة القاهرة سنة ( 359 هـ - 970 م )، و هي تَضمُّ مدينةَ الفسْطاط القديمة التي أقامها عمرو بن العاص فقامت مقامها ، و عادت مدينةُ الفُسْطَاط لا تكون اليومَ إلا ضاحيةً لتلك المدينة تُعْرَف الآن باسم مصرَ القديمةِ ، و إن كانت مدينة عمرة بن العاص هذه لم تَحْمل سابقاً هذا الاسمَ غيرَ المطابق للأصل.

و تَمَّ إنشاء القاهرة بعد أن وُضِع حجرُها الأول بثلاث سنين ، و أنفق الفاطميون جزءاً كبيراً من دَخْلهم الواسع على تجميلها و زخرفتها ، و لم يَأْل كلُّ عاهلٍ جُهْداً في أن يَسْبِقَ سلفَه في ذلك ، ثم سار المماليك الذين حَلّوا محل الخلفاء العرب على غرَار هؤلاء في تزيين القاهرة ، و لم ينقطع أمر عُمْرَانها إلا بعد أن أصبحت ولايةٍ تركية ، فقد أهملها الترك فضلاً عن عدم زخرفتها لها ، و اليوم تَتَدَرَّج مبانيها المهمة إلى الخراب ، و صار يُخْشَى زوالها في المستقبل لعدم إصلاحها ، و قد قال لي أحدُ عِيَلة القوم في مصر : إني أصبت في زيارتي لتلك المباني ، فقد لا يبقي منها شئٌ يستحقُّ المشاهدة بعد سنين قليلة.

من كتاب : حضارة العرب - غوستاف لوبون ، ترجمة عادل زعيتر - مهرجان القراءة للجميع ، مكتبة الأسرة 2000 ، صفحة 225

ليست هناك تعليقات: