كل ما رآه أمام عينيه ( الرئيس السادات ) أثناء وجوده في مركز القيادة رقم " 10 " و بعد خروجه منه - تجربة أسطورية - و كان يمكن رد ما بدا أسطورياً إلى أسباب عقلانية و علمية :
*** أولها - أنه كان هناك وطن و أمة وقعا معاً تحت ضغوط هائلة وصلت إلى تفجير النواة الداخلية الصلبة لمعدن الوطن و الأمة ، و بالتالي فإن طاقة يصعب تصورها أفلتت من عقالها و اندفعت شحناتها - كما يحدث في أي تفجير نووي - تهاجم ذرات آخرى و تكسرها و تطلق شحناتها ، ثم تصل قوة الفعل المضاعف ، و ردود الفعل المتصلة - إلى خلق قوة جبارة لم يكن أحد يتخيل وجودها في نواة ذرة.
*** و ثانيها - أن التجارب المريرة السابقة - و على قمتها تجربة سنة 1967 - علمت كثيرين و بالذات في القوات المسلحة المصرية أن العِلم ، و التخطيط على أساسه ، هما وسيلة العصر لتحقيق أي هدف. و هكذا فإن عملية إعادة البناء التي بدأت مباشرة غداة نكسة 1967 - استطاعت أن تخلق حقائق جديدة من مقدرة الفكر و التحضير و الفعل ، و بالتالي امتلكت القوات المسلحة كفاءة تمكنت بها من إحداث نقلة نوعية في أساليب أدائها بالسلاح أمام عدوها.
*** و ثالثها - أن الكم الإنساني ( جيش المليون ) - استطاع أن يوفر لنفسه حجماً من الكيف ( كان في جيش المليون قرابة مائة ألف من حملة الشهادات المتوسطة و العليا ) له وزن أضيف إلى إرادة و مقدرة الفعل ، و كانت نتيجة تلاحم العنصرين معاً : عنصر الكم ، و عنصر الكيف - تحقيق ما يمكن وصفه بأنه معجزة.
و لقد أثارت هذه المعجزة على سبيل المثال اهتمام و فضول الكثيرين ، بينهم لجنة القوات المسلحة في الكونجرس الأمريكي ، و قد قصدت مصر و العمليات لم تتوقف بعد رغم نصائح لها من واشنطن بالانتظار - و كانت لهفة أعضائها أنهم يريدون التقصي عن أسباب مالم يتوقعه أحد!
و حين جاءوا و رأوا و عادوا ليكتبوا تقريرهم كانت آراؤهم :
أ - أن اقتحام خط " بارليف " سنة 1973 عمل عسكري لا يقل في أهميته عن سقوط خط " ماجينو " الفرنسي سنة 1940 .
ب - أن هناك نقلة بشرية كبيرة في نوعية المقاتلين العرب تختلف بها هذه الحرب عن أي حرب آخرى خاضوها من قبل.
جـ - أن التخطيط المصري للمعارك كان على كفاءة عالية ، و قد تمكن من تجاوز أسباب التفوق الإسرائيلي التقليدية. و كانت لإسرائيل ثلاثة عناصر من التفوق :
* تفوق في الطيران: و قد ألغته مصر باستعمال الصواريخ الصغيرة المضادة للطائرات من طراز سام ( للإرتفاعات العالية ) - و من طراز ستريللا ( للإرتفاعات المنخفضة ).
* تفوق في المدرعات : و قد ألغته مصر بالتوسع في الصواريخ أيضاً من طراز مولوتكا.
* تفوق في نظام التعبئة العامة : و قد ألغته مصر بعنصر المفاجأة من ناحية ، و بالتخطيط للحرب على جبهتين في وقت واحد : الجبهة المصرية ، و الجبهة السورية - من ناحية آخرى.
د - أن مصر لم تكن تملك بصفة عامة أسلحة جديدة متقدمة تم استعمالها مفاجأة ، لكنها في هذه النقطة استطاعت أن تجد وسيلة مبتكرة ، و تلك أنها استعاضت عن تقدم السلاح ، بسياسة التوسع في نشره. و قد ذكر تقرير اللجنة أن الجبهة المصرية شهدت انتشاراً للأسلحة وصفته اللجنة بأنه astounding ( أي مذهل ) - أي أن الكميات التي استعملت منه كانت غير مسبوقة ، فأمام هجمات الطائرات كانت هناك آلاف مؤلفة من صواريخ ستريللا ، و أمام زحف المدرعات كانت هناك آلاف مؤلفة من صواريخ مولونكا.
وقد لاحظت لجنة الكونجرس أن التوسع المذهل في نشر الصواريخ على الجبهة المصرية لم يكن مكلفاً فوق الطاقة ، و ضربت اللجنة لذلك مثلاً خلاصته أن الصاروخ السوفيتي المضاد للدبابات كان ثمنه 1000 دولار ، في حين أن الصاروخ الأمريكي الذي يؤدي نفس مهمته كان ثمنه 100000 دولار.
هـ - ومع ذلك فقد كان لدى القوات المصرية نوع من الكيف لاشك فيه ، و من نماذجه ما اشارت إله لجنة الكونجرس من أن الصاروخ من طراز " سام 6 " لم يقدم لفيتنام ، و لكنه قدم لمصر. و أن الدبابات من طراز " ت 62 " لم تكن دخلت إلى الخدمة في قوات حلف وارسو - و مع ذلك كانت عاملة مع السلاح المصري سنة 1973 .
*** و رابعها - أن اسرائيل - لأول مرة في حياتها - فوجئت بعمل عربي أخذ في يده زمام المبادأة ، وكان أكبر عون له هو الغرور الاسرائيلي الذي تزايد بعد سنة 1967 ، و وصل إلى درجة قاتلة حين أصبح التفكير و التخطيط الاسرائيلي قائمين على أسس جامدة رغم الشواهد - فقد ظلوا إلى آخر لحظة متجمدين عند قناعة " أن العرب لا يملكون خياراً عسكرياً قط " .
*** و خامسها - أن القوات المصرية كانت لأول مرة في عملية تستهدف تحرير أرضها ، و قد طالت معرفتها و ألفتها مع الخطة خدمة و تدريباً ومناورة على عملية التحرير التي أخذت هذا الاسم الرمزي أثناء المناورات فعلاً ، فأصبح هناك مشروع " تحرير 1 " و " تحرير 2 " و " تحرير 3 " و هكذا ..
و حين جاءت اللحظة لعملية التحرير الفعلية فإن القوات لم تتقدم فقط لتحرير الأرض - و إنما تقدمت إلى عملية عاشتها و تآلفت معها طوال تجارب طويلة ، و هكذا فإنه حين جاءت تجربة الحقيقة ، فإن الشباب و الرجال قاموا بها و كأنهم يقومون بعملية تدريب آخرى ( على حد تعبير الفريق " أحمد اسماعيل " ).
*** و سادسها - أن التفجير الذري الذي جرى في أعماق الشعب المصري و أطلق شحناته الهائلة ، كان له مثيله فيما حدث لشعوب عربية آخرى. و قد كان هناك ما جعل الملك " فيصل " على سبيل المثال يلوح مبكراً بإمكانية استخدام البترول. بل و قد كان هناك شئ قريب الشبة بذلك في موقف الإتحاد السوفيتي نفسه في تلك الفترة. ذلك إن كثرة الإلحاح عليه دفعته على نحو ما إلى أن يستجيب و لو بالكم ، مما أحدث فارقاً هائلاً في تركيز و كثافة النيران.
و على سبيل المثال فإن قرار مصر بالحرب سنة 1973 - كان يقضي باستعمال كل " الوسائل المتاحة لدى الجيش المصري في عمل عسكري لعبور القناة " ، و كان هذا هو نفس التعبير الذي استعمله في ربيع سنة 1971 حينما كان الفريق " محمد فوزي " وزيراً للحربية و قائداً عاماً للقوات المسلحة - لكن الفارق بين حجم السلاح في ربيع سنة 1971 و حجمه في خريف سنة 1973 - كان بنسبة الضعف تقريباً في حجم النيران.
معنى ذلك أنه كان هناك عوامل موضوعية يمكن لها أن تفسر المعجزة ، لكن الإحساس بالمعجزة نفسها - بعيداً عن اسبابها - كان هو العنصر الطاغي على المشاعر في تلك الليلة الحاسمة - ليلة 6 - 7 أكتوبر 1973 .
*** و سابعها - أن الرأي العام العالمي ضاق ذرعاً بالعناد الاسرائيلي المُصمم على عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة اعتماداً على أن العرب لن يحاربوا ، و ذلك خلق جواً مواتياً لتقبل العمل العربي حينما حان آوانه !
من كتاب : أكتوبر 73 السلاح و السياسة - محمد حسنين هيكل - مركز الأهرام للترجمة و النشر ، الطبعة الأولى 1993 ، صفحة 353